04 يونيو . 9 دقائق قراءة . 640
فكرة "المخيلات المحتلة"، تحضر بقوة، كلما عثرنا عبر الترجمات على نصوص شعرية سورية قديمة كُتبت قبل تعرضنا لاكتساح الذائقة "العربية" التي أرست قواعد إبداعية ونقدية ولغوية مغايرة، جعلتنا ندور في فلك مناقض، نعتقد فيه أن مئتي سنة قبل الإسلام هي التاريخ الحقيقي للشعر في حين تشير عمليات نبش الذاكرة إلى تراث كامل مكتوب قبل الميلاد بكثير!. هكذا كان علينا أن نُفاجأ كل مرة بأشعار "ميلياغروس وأنتيباتر وفيلوديموس وفاليريوس بابريوس وبيون الأزمرلي وآرخياس الأنطاكي وآراتوس وإيرينا وبوسيدونيوس وأوبيان..." وغيرهم كثير من الشعراء السوريين الأجداد الذين لم تصل إلينا نصوصهم إما بفعل مشكلة في الترجمات أو بسبب عدم معرفتنا للغات القديمة التي كتبت فيها تلك النصوص ومنها الآرامية واليونانية!.
عملية قطع جذور المخيلة السورية وتطعيم أشجارها بغراس دجّنتها وغيرت نوعية ثمارها، كان له الكثير من الأسباب التي ليست محور حديثنا هنا، والمفارقة أننا كنا مضطرين دائماً إلى نبش المكتبات الأوروبية والأميركية للعثور على ذلك التراث المغبون رغم أننا ننتمي إليه وينتمي إلينا، وأن نعيد استرداده من لغات ثانية في عملية مضنية تتم فيها الترجمة عن الترجمات لأننا بكل بساطة لا نمك النسخة الأصلية التي تم النقل عنها، ثم لا نملك الخبرات الكافية في لغاتنا القديمة بحيث يترجمها من لغاتها الأم أحفاد أولئك الشعراء وأبناء البيئة نفسها لأنهم الأقدر على التعبير عن تجليات النص وصوره..
تغيير القواعد النقدية هو من أبسط النتائج التي من المفترض أن تحصل بعد أن نقرأ عن تأثير "المدرسة السورية في الشعر" التي عُرفت في العصر الهلنستي والتي كان لها تأثير على الكتابة في اليونان وبقية أنحاء العالم، ويبدو الدافع للبحث منطقياً حول تداعيات حلول ذائقة عربية وافدة مكان ذائقة محلية سورية تعتبر ابنة البيئة.. هل يمكن القول إن هذه الذائقة القديمة غابت إلى الأبد، أم إنها ستعود عبر أدوات وأساليب وأشكال مختلفة لا تقتصر على الشعر وحسب بل تطال جميع أنواع الفنون؟.
سأنطلق من قاعدة تقول إن ولادة قصيدة النثر في سوريا كانت علامة على شق عصا الطاعة بشكل فطري على المخيلة العربية الوافدة، وهي بالتالي عودة إلى جذور المخيلة الأصلية ابنة البيئة الشرعية، والمقصود بسوريا هنا هو بلاد الشام والعراق التي وصلتنا منها أقدم النصوص الأسطورية والشعرية حيث تمتلك تلك النصوص مشروعية التعبير عن الشخصية الاجتماعية وعن المخيلة والذائقة المندثرة، فبغض النظر عن أسباب ولادة قصيدة النثر في أوروبا وعن التحليلات التي فسرت ذلك استناداً إلى حال المجتمعات هناك، فإن الواقع المحلي السوري كان يشير إلى استيقاظ للمخيلة السورية القديمة عبر قصيدة النثر التي رفضت الأوزان الشعرية الخليلية التي فُرضت بعامل الغزوات العربية إلى جانب اللغة العربية والمفاهيم المعرفية التي تبناها السوريون قسراً، تجاه الحياة والكون والفن!.
ما دفعني إلى هذه الخلاصات، هو تشابه الفضاء التخييلي والصور بين النصوص السورية القديمة المكتوبة قبل الميلاد، ونصوص قصيدة النثر التي توضحت ملامحها في منتصف القرن الماضي، ولنأخذ مثالاً على ذلك تجربة الشاعر محمد الماغوط صاحب "الفرح ليس مهنتي" و"غرفة بملايين الجدران"، الذي يعتبر الأب الشرعي لقصيدة النثر، فالتقاطعات تبدو كبيرة بين الأسلوبية والمخيلة الماغوطية من جهة، مع مخيلة وأسلوبية الشاعر السوري القديم ميلياغروس "140 ق.م"، وغيره من شعراء تلك الفترة، من دون عملية قصدية للماغوط أو غيره من شعراء قصيدة النثر الذين خرجوا من معطفه لاحقاً..
نعم، المخيلة الشعرية السورية القديمة استيقظت عبر قصيدة النثر، لأن عملية القضاء على اللوغوس السوري لم تكن لتتم لأنها معاكسة لحركة التاريخ باعتباره ناتجاً عن عملية تفاعل بين الإنسان والبيئة، هذين العنصري اللذين لا يمكن تبديلهما عبر الغزوات والأحكام السياسية والأيديولوجية، وبالتالي فقد كان من الطبيعي أن تعود المخيلة السورية الأصلية والأصيلة إلى الانتعاش عبر قصيدة النثر لأن عناصر المعادلة الكيميائية ما زالت هي ولم تتغير عناصرها رغم التجزئة والتخلف وحلول عصور كاملة من الانحطاط التي عصفت بالإنسان السوري وبيئته على حد سواء..
صحيح أن الشعر السوري المكتوب قبل الإسلام كان يخضع لقواعد وزنية ولم يكن نثرياً غير موزون، وقد تم اندثار تلك الأوزان لصالح الأوزان الخليلية العربية الوافدة، لكن الاعتقاد يقول بأن العودة إلى تلك الأوزان القديمة يمكن أن يتم على مراحل عبر كتابة النثر أو عبر إجراء تعديلات على الأوزان للخروج من شكل البيت العمودي، وقد فعل السوريون ذلك بالفعل عندما كانوا أول من كتب قصيدة التفعيلة التي خرجت من البيت الواحد لكن هذا الخرود لم يكن كاملاً لأنها ظلت وفية للقواعد الكلاسيكية العربية!.
عند المقارنة بين فضائي الماغوط وميلياغروس، سنعثر على القواسم المشتركة التي تحدثنا عنها، في ديوان "إن كنت سورياً.. سلام" للشاعر ميلياغروس الذي ترجمه الباحث عادل الديري وصدر في دمشق عام 2016 عن دار التكوين، ودواوين الماغوط الشهيرة وفي مقدمتها "حزن في ضوء القمر" والنسخة التي بين أيدينا صادرة في عام 1973 عن دار العودة في بيروت.. ولن يشذ عن تلك القواعد معظم النصوص في كتاب "شعراء سوريا في العصر الهيلينستي" للدكتور إحسان هندي، الصادر في دمشق عن الهيئة العامة السورية للكتاب سنة 2010، إذا ما قارناها مع قصائد الماغوط أو سواه من رواد قصيدة النثر..
قصيدة "الربيع" في ديوان "إن كنت سورياً.. سلام" لميلياغروس، تحضر مفردات البيئة السورية التي تصنع فضاءً خيالياً تبنى عليه الصورة، مثلما هو الأمر في قصائد الماغوط، وذلك طبيعي نظراً للمرجعية البيئوية الواحدة، لكن هذا الفضاء يتسع بشكل أكبر ليؤنسن تلك المشهدية في صور يبنى عليها النص في معظم حالاته، يقول ميلياغروس: "مكللة بأبيض البنفسج.. بالآس تتوجي.. مضفوراً بالنرجس.. تكللي بضاحك الزنبق.. بأزهار الزعفران والخزامى..". وفي قصيدة "رجل على الرصيف" يقول الماغوط: "ولأهدابك الصافية، رائحة البنفسج البري.. عندما أرنو إلى عينيك الجميلتين.. أحلم بالغروب بين الجبال.. والزوارق الراحلة عند المساء.. أشعر أن كل كلمات العالم طوع بناني..".
يتكرر كثيراً هذا الفضاء التخييلي المتشابه في قصائد الشاعرين، فيقول ميلياغروس: "لأنها هوليودورا.. حلاوة الكلام العذب.. ربة واحدة في عيوني.. أكسر بحلاوتها مرارة نبيذي.. قبل أن أحتسيه..".. وفي "حزن في ضوء القمر" يقول الماغوط: "أحب المطر وأنين الأمواج البعيدة.. من أعماق النوم أستيقظ.. لأفكر بركبة امرأة شهية رأيتها ذات يوم.. لأعاقر الخمرة وأقرض الشعر.. قبل لحبيبتي ليلى.. ذات الفم السكران والقدمين الحريريتين.. إنني مريض ومشتاق إليها.."... في أماكن كثيرة من هذه القصائد تبدو هيليودورا ميلياغروس، هي ليلى محمد الماغوط فيما يخص الفضاء التخييلي الذي أشرنا إليه، ولا ننسى أن الفارق الزمني بين النصين يمتد قرابة ألفي سنة!.
في قصيدة "رسالة من فوق التراب" يخاطب ميلياغروس هيليودورا قائلاً: "دموعي مدخرات حبي.. أعليك تهطل هناك.. في الآخرة يا هيليودورا؟.. أذرفها على قبرك الموحش.. أبذل الدمع كأختام من توق... تذكار عشق وشوق.. ببؤس، بكل البؤس أرثيكِ.. غالية قلبي تبقين.. في الثرى أنتِ.. وما انفككت أبكيكِ..".. أما الماغوط فيكتب في رحيل سنية صالح: "كل من أحببت كنّ نجوماً.. تضيء للحظة وتنطفئ إلى الأبد.. وأنتِ وحدك السماء.. ثلاثين سنة، وأنتِ تحمليني على ظهرك كالجندي الجريح.. وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى القبر..".
مخاطبة الذات بأن يقوم الشاعر بذكر اسمه في القصيدة، تكررت كثيراً في القصائد السورية الحديثة، لكن ميلياغروس كان أول شاعر في التاريخ يفعلها: "أيا ميلياغروس!.. من أين وإلى أين.. أضعت دفة فكرك.. فتقاذفتك الأمواج.. وكانت هنالك دمية.. اسمها سكيللا.. حلوة.. هلّا تعود إلي؟".
ما نريد قوله هنا، إن الفضاء التخييلي وتركيب الصورة يبدو متقارباً بين ما نسميه المدرسة السورية في الشعر التي اشتهرت قديماً، وأهم التجارب النثرية التي كتبت حديثاً وفي مقدمتها الشاعر محمد الماغوط، وذلك نفسره بأنه عودة إلى الجذور وليس انقطاعاً عنها، فالجذور هي تلك الكتابة السورية القديمة التي وردتنا على نحو مكتمل في شعراء العصر الهيلينستي وقبلهم في الأساطير وبعض النصوص التي كتبت في الحضارات السومرية والبابلية والآشورية.. وهذه الرؤيا تشكل مقدمة لدراسة أعم وأشمل تتناول جوانب أخرى لغوية وأسلوبية، فما سماه بعض النقاد بأنه انسلاخ عن الهوية في كتابة قصيدة النثر، ربما يكون صحوة في الهوية وعودة إليها بعدما ساد الضلال واستفحل العتم!. فالمخيلات التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال، ظهرت وكأنها تتحرر في هذه الكتابة!.
زيد قطريب